ديوان المعاني/ذكر الرياض والأنوار والبساتين والثمار

من موسوعة الأدب العربي
اذهب إلى:تصفح، ابحث

ذكر الرياض والأنوار والبساتين والثمار

ذكر الرياض والأنوار والبساتين والثمار - ديوان المعاني

ذكر الرياض والأنوار والبساتين والثمار

وما يجري مع ذلك

أخبرنا أبو أحمد، عن رجاله، عن أبي عمرو، وغيره قالوا: أجود ما قيل في وصف روضة قول الأعشى:

ما روضة من رياضِ الحزنِ معشبةٌ

خضراءُ جادَ عليها مسبلُ هَطِلُ

يضاحك الشمسَ منها كوكبٌ شرقٌ

مؤزرٌ بعميم النبتِ مكتهل

يوماً بأطيبَ منها نشرَ رائحةٍ

ولا بأحسن منها إذ دنا الأصلُ

قال المصنف:خص العشي، لأن كون الانسان بالعشي أحسن منه بالغداة، لرقة تعلوه بالعشي وتهبج يعتاده بالغداة، وتعتري الألوان بالعشيات، صفرة قليلة تستحسن، ولذلك شبهها بالروض لما في الروض من الزهر وهو أصفر. ومن هذا قوله أيضاً:

وصفراء العشية كالعرارة

وقال بعضهم: بل خص العشي لنقصان الحسن فيه، قال: فشبهها في نقصان الحسن، بالروضة في حال تمام حسنها، وليس كذلك لأن الروض بالغداة أحسن منه بالعشي. والتشبيه المصيب من الشعر القديم قول بشر بن أبي خازم:

وروضٍ أحجمَ الروادُ عنهُ

له نَفَلٌ وحَوْذان تؤامُ

تعالى نبتهُ واعتمَّ حتى

كأنَّ منابتَ العُلجان شامُ

الشام: جمع شامة أي ظاهر كظهور الشامة في الوجه، ويقال: ما أنت إلا شامة أي أمرك ظاهر. وأنشد الجاحظ قول النمر بن تولب العكلي:

ميثاءُ جادَ عليها مسبلٌ هطلٌ

فأمرعت لاحتيال فرطَ أعوامِ

إذا يجفُّ ثراها ديمٌ

من كوكب نازلٍ بالماء سجام

لم يرعها أحدٌ وارتبها زمنا

فأوٌ من الأرض محفوفٌ بأعلامِ

تسمعُ للطير في حافاتها زَجَلاً

كأنَّ أصواتها أصواتُ خُدامِ

كأنَّ ريحَ خُزاماها وحَنوتها

بالليلِ ريحُ يلنجوجٍ وأهضام

ولم يدع شيئاً يكون في الخصب إلا ذكره. ومن أبلغ ما وصف به كثرة الكلأ، ما أخبرنا به أبو أحمد، عن أبي بكر بن دريد، عن عمه، عن ابن الكلبي، عن أبيه، قال:خطب ابنه الخس ثلاثة نفر من قومها، فارتضت أنسابهم وجمالهم، وأرادت أن تسبر عقولهم فقالت لهم: إني أريد أن ترتادوا إلى مرعى، فلما أتوها قالت لأحدهم: ما رأيت ؟ قال: رأيت بقلاً وبقيلاً، وماءً غدقاً سيلا، يحسبه الجاهل ليلاً قالت: أمرعت. وقال الآخر: رأيت ديمة فوق ديمة، على عهاد غير قديمة، فالناب تشبع قبل الفطيمة. وقال الثالث: رأيت نبتاً ثعداً معداً متراكباً، جعداً، كأفخاذ نساء بني سعد، تشبع منه الناب وهي تعدو. اه. بقلاً وبقيلاً: يقول بقل قد طال وتحته عمير قد نشأ، والغدق: الكثير يحسبه الجاهل ليلاً من كثافته وشدة خضرته، والديمة المطر يدوم أياماً في سكون ولين، والعهاد أول ما يصيب الأرض من المطر الواحد عهد، تشبع منه الناب قبل الفطيمة: يريد أن العشب قد اكتهل وتم فالناب وهي المسنة من الابل تشبع قبل الصغيرة منها لأنها تنال الكلأ وهي قائمة لا تطلبه ولا تبرح موضعها، والفطيمة تتبع ما صغر والصغير فيه قليل. وهذه صفة بليغة. وأبلغ منها قول الآخر: تشبع منه الناب وهي تعدو أي من طول النبات وكثرته وعمومه، تعدو وتأكل لا يحتاج إلى تتبعه وطأطأة رأسها له. ولا أعرف في جميع ما وصف به كثرة الكلأ أبلغ من هذا. والثعد: الرطب اللين والمعد اتباع. والثرى الجعد: الذي قد كثر نداه فإذا ضممته بيدك اجتمع ودخل بعضه في بعض كالشعر الجعد، وخص نساء بني سعد لأن الأدمة فيهم فاشية. ومن أبلغ ما قيل في طول الكلأ قول الآخر أنشده ابن السكيت وثعلب:

أرعيتُها أطيبَ أرضٍ عودا

الصِّلَّ والصِّفْلَّ واليعْضيدا

والخازبازِ السَّنمَ المِّجُودَا

بحيثُ يدعو عامرٌ مسعودا

يقول: قد سد النبات، من طوله وسبوغه، مسعوداً فليس يراه عامر، فهو يصيح به، الصل والصفصل وخازباز ضرب من النبات. وليس ألفاظ الأبيات بالمختارة إنما اخترتها لجودة معناها. ونظر أعرابي إلى يوم دجن، وإلى نبات غض فاستحسن فقال ارتجالاً:

أنتَ والله من الأي

ام لَدْنُ الطَّرَفَيْن

كلما قلبتُ عي

نيَّ ففي قرَّةِ عينِ

وقلت:

أتاهُ يُريدُ المزنَ ينشدهُ الصبا

فدَوَّمَ من أعلى رُباه ودَّيما

ولاح إليه بالبروقِ مُطرزاً

فأصبح منها بالزواهرِ معلما

ومن بديع ما قاله محدث، في صفة الرياض والبساتين، قول عبد الصمد بن المعذل أنشدناه أبو أحمد وغيره:

مغانٍ من العيش الغريرِ ومَعْمر

ومبدى أنيقٌ بالعُذيب ومَحضرُ

نما الروضُ منهُ في غداةٍ مَريعةٍ

لها كوكبٌ يستأنقُ العينَ أزهرُ

ترى لامعَ الأنوارِ فيها كأنه

إذا اعترضتهُ العينُ وشيٌ مُدنَّر

تَسابقَ فيهِ الأقحوانُ وحَنْوةٌ

وساماهما رنَدٌ نضيرٌ وعبهرُ

يمجُّ ثراها فيهِ عفراء جعدة

كأن نداها ماءٌ وردٍ وعنبرُ

أعادَ نسيمُ الريحِ أنفاسَ نشرهِ

وخايل فيه أحمر اللون أصفرُ

بدا الشيحُ والقيصومُ عند فروعه

وشثٌ وطُبّاقٌ وبانٌ وعَرْعرُ

وناضرُ رمانٍ يرفُّ شكيرهُ

يكادُ إذا ما ذرت الشمسُ يقطر

ويَانعُ تفاحٍ كأنَّ جنيَّهُ

نجومٌ على أغصانِه الخضر تزهر

فإذ هاجَ نوحُ الأيكِ في رونقِ الضحى

تذكر محزونٌ أو ارتاحَ مقصر

تجاوبنَ بالترجيع حتى كأنما

ترنَم في الأغصانِ صنجٌ ومِزهر

مراناةَ موموقٍ وترجيعَ شائقٍ

فللقلب ملهاةٌ وللعينِ منظر

واني إلى صحنِ العذيبِ لتائقٌ

واني إليه بالمودَّةٍ أصوَر

مرعت ولا زالت تصوبك ديمةٌ

يجودُ بها جونُ الغواربِ أقمرُ

أحم الكلى واهي العرَى مسبل الجدى

إذا طعنت فيه الصبا يتفجرً

كأنَّ ابتسامَ البرقِ في حجراتهِ

مهندةٌ بيضٌ تشامُ وتشهرُ

وقول ابن المعتز يتضمن صفة الأنوار على التمام ولا يكاد يشذ منه شيء البتة وهو:

والروضُ مغسولٌ بليلٍ ممطرِ

جَلا لنا وجه الثرى عنم منظرِ

كالعضبِ أو كالوشي أو كالجوهرِ

من أبيضٍ وأحمرٍ وأصفرِ

وطارقٍ أجفانُه لم تنظر

تخالُه العين فماً لم يُغْفر

وفاتقٍ كادَ ولم ينوِّر

كأنه مبتسمٌ لم يَكْشِر

وأدمعٍ الغُدْران لم تكدّرِ

كأنه دراهمٌ في مَنْثر

أو كعشورِ المصحف المنشر

والشمس في أصحاءِ جوٍّ أخضر

كدمعةٍ حائرةٍ في محجَرِ

تُسقي عُقاراً كالسّراج الأزهر

مُدامةً تَعْقِر إن لم تُعقَر

يديرها كفُّ غزالٍ أحور

ذي طُرّةٍ قاطرةٍ بالعنبرِ

ومَلَثم يكشفُه عن جوهرِ

وكَفَلٍ يَشْغلُ فضلَ المِئزَر

تخبرُ عيناهُ بفسقٍ مضمَرِ

يعلّم الفجور إن لم يَفجُر

وقلت:

جواهرُ عشبٍ ونوْرٍ نظيم

وأفرادِ ظلِّ وقطرٍ نثيرِ

فمن بين صُفرٍ وحُمرٍ وخُضر

على القضبِ غيدٍ وزور وصورِ

ولعسٍ تناسبُ لعسَ الشفاه

وبيضٍ تعارضُ بِيض الثغورِ

نواظِرِ من بينِ يقظى ووسنى

ونُجل وحُزْرٍ وحُولٍ وحُورِ

وقد استوفى في هذه الأبيات، جميع أوصاف الأنوار، على اختلاف حالاتها. وأنشدنا أبو أحمد قال أنشدنا التنوخي لنفسه:

أما ترى الروضَ قد وافاك مبتسماً

ومدَّ نحوَ الندَّامى للسلام يدا

فأخضرٌ ناضرٌ في أبيض يَقق

وأصفر فاقع في أحمر نُضدا

مثل الرقيبِ بدا للعاشقينَ ضحى

فاحمرَّ ذا خجلا واصفرَّ ذا كمدا

ومن المشهور قول الحماني:

دِيَمٌ كأنَّ رياضها

يُكسين أعلامَ المطارفِ

وكأنما غُدرانُها

فيها عُشورٌ في مصاحفِ

وكأنما أنوارُها

تهتزُّ بالريح القوصفِ

طرر الوصائفِ يلتفت

نَ بها إلى طُررِ الوصايف

وقلت:

وروضةٍ حاليةِ الصدور

كاسيةِ البطونِ والظهورِ

محمودة المخبورِ والمنظور

مونقةِ المطويِّ والمنشورِ

معجبة الظاهرِ والمستور

ضاحكة كالوافدِ المحبور

باكية كالعاشقِ المهجورِ

شذَّرها الغيثُ بلا شذور

شقائق كناظرِ المخمور

وأقحوان كثغورِ الحورِ

ونرجس كأنجم الدّيجورِ

وأقحوان كثغورِ الحورِ

والطل منثور على منثور

يرصعُ الياقوتُ بالبللورِ

وقال السري وأحسن، وليس فيمن تأخر من الشاميين أصفى ألفاظاً مع الجزالة والسهولة وألزم لعمود الشعر فيه:

وجناتٍ يُحي الشرْبَ وهْنا

جَنَى وهْدَاتِها وجنى ربَاها

إذا ركد الهواءُ جرت نسيماً

وإن طاحَ الغمامُ طَغَتْ مياها

يُفرَّجُ وشيها عن ماءِ وردٍ

يفيضُ على اللآليء من حصاها

تعانقُ ريحها لممَ الخزامى

وأعناق القرنْفُل في سُراها

ويأبى زهرُها إلا هجوعاً

ويأبى عَرْقُها إلا انتباها

وقال البحتري:

قطرات من السحابِ وروض

نثرت وردها عليهِ الخدودُ

فالرياحُ التي تَهبُّ نسيمٌ

والنجومُ التي تطلُّ سعود

وقال ابن الرومي:

أصبحت الدنيا تروقُ من نظرْ

بمنظرٍ فيه جِلاءٌ للبصْر

واهاً لها مصطنعاً لقد شكرْ

أثنتْ على اللهِ بالآءِ المطرِ

والأرضُ في روضٍ كأفواه الحِبر

تبرّحتْ بعدَ حياءٍ وخَفَرٍ

تبرُّجَ الأنثى تصدّى للذّكرِ

وقال وأحسن:

وحِلسٍ من الكتانِ أخضرَ ناضرٍ

يُباكرُه دانِ الرَّبابِ مَطيرُ

إذا دَرَجت فيه الرياحُ تتابعتْ

ذوائبهُ حتى يقالَ غديرُ

وقلت:

أنظر إلى الصحراء كيفَ تزخرفت

وإلى دموعِ المزنِ كيف تُذَرِّف

وعلى الربى حُللٌ وشّاهُنَّ الحيا

فَمسهمٌ ومُقَصبٌ ومفوَّفُ

وملابس الأنواء فيها سُندسٌ

ومضاجعُ الأنداءِ فيها زخرفُ

نمَّ الرياحُ على الرياضِ نمائماً

ذَكرنَك الكافورَ حين يَدُوف

وعلى التلاع من الأقاحي حُلةٌ

وعلى اليفاع من الشقائقِ مطرف

والغيمُ تنقشُه الرياحُ عَشيةً

كالقطن في زرقِ الثياب يندفُ

والقطر يهمي وهو أبيض ناصعٌ

ويصيرُ سيلاً وهو أغبرُ أكلف

والبرقُ يلمعُ مثلَ سيفٍ يُنتَضى

والسيلُ يجري مثل أفعى تزحف

وقول أعرابي: باكرنا وسمي، ثم خلفه ولي، فالأرض كأنها وشي منشور، عليه لؤلؤ منثور، ثم أتتنا غيوم بمناجل حصاد، فاختربت البلاد، وأهلكت العباد فسبحان من يهلك القوي الأكول، بالضعيف المأكول. وقال أبو تمام:

الروضُ ما بينَ مغبوقٍ ومصطبحِ

من ريق مختفِلاتٍ بالحيا دُلُحِ

جُونٌ إذا هطلت في روضةٍ طفِقَتْ

عيونُ نُوّارِها تبكي من الفرحِ

وقال أبو الغضبان اليمامي:

غدونا على الروضِ الذي طلهُ الندى

سحيراً وأوداجُ الأباريقِ تسفَكُ

فلم أرَ شيئاً كانَ أحسنَ منظراً

من الروضِ يجري دمعه وهو يضحك

وقال غيره:

وإذا الزمردُ مثمر ذهباً

ومن اللجين لعسجد ورق

لا زال يُمْتِعُنا بجِدتِه

وجديده بجديدنا خَلَقُ

وقال غيره في تلون الأرض:

فترى الرياضَ كأنهنّ عرائسٌ

يُنقلنَ في صفراءَ من حمراء

وقال أبو تمام:

رقّت حواشي الدهرِ وهي تَمَرْمَرُ

وغدا الندَى فس حليهِ يتكسرُ

مطرٌ يروقُ الصحوُ منهُ وبعدهُ

صحوٌ يكادُ من النضارةِ يمطرُ

وندىً إذا ادَّهنت به لممُ الثرَى

خلتَ السحابَ أتاهُ وهو معذِّر

ما كانتِ الأيامُ تسلبُ بهجةً

لو أنَّ حُسنَ الروضِ كان يُعمَّر

أوَ لا ترى الأشياء إذ هي غيرت

سَمُجَت وحسنُ الروضِ حينَ يغيّرُ

يا صاحبيَّ تقصّيا نظريكما

تَريا وجوهَ الأرضِ كيفَ تصوّرُ

تريا نهاراً مشمساً قد شابهُ

زهرُ الرُّبى فكأنما هو مقمرُ

دنيا معاشٍ للورى حتى إذا

جلّى الربيعُ فإنما هي منظرُ

أضحت تصوغُ ظهورَها لبطونِها

نوراً تكادُ له القلوبُ تنور

من كلِّ زاهرةٍ تَرَقْرَقُ بالندى

فكأنما عينٌ عليه تحدّرُ

تبدو ويحجبها الجَميمُ كأنّها

عذراءُ تبدو تارةً وتخفّرُ

الجميم متكاثف النبت، يقول: يظهر بتحريك الرياح إياه، ويستتر عند سكونها فيغطيه الجميم:

صنعُ الذي لولا بدائعُ لطفهِ

ما عاد أصفرَ بعدَ إذ هو أخضرُ

وقلت في مديح:

إني أرى لك في السماحة والندَى

طلقاً ذَرَيْتَ به على الأطلاقِ

طَلَق الغمامِ سرَى بوجهٍ باسرٍ

يُروي الوجوهَ ومبسم براق

ثقلت على عنق الصبا أعباؤهُ

مثل الضعيف بنوء بالأوساقِ

فترى النباتَ يروقُ وسط رياضه

مثل الحليِّ تروقُ وسطَ حِقاقِ

وقال البحتري:

إذا أردتَ ملأتَ العين من بلدٍ

مستحسنٍ وزمانٍ يشبهُ البلدا

يمسي السحابُ على أجبالها فرقا

ويصبح الروضُ في صحرائها بِدَدا

فلستَ تبصرُ إلا واكفاً خضلاً

أو يانعاً خضراً أو طائراً غردا

وقال أيضاً:

ولا زال مخضرٌّ من الأرض يانع

عليه بمحمرّ من النورِ جاسد

يذكرنا ريَّا الأحبةِ كلما

تنفس في جنح من الليل باردِ

شقائقُ يحملنَ الندَى فكأنهُ

دموع التصابى في خدودِ الخرائدِ

ومن لؤلؤ في كالأقحوانِ مُنضد

على نكت مصفرة كالفرائدِ

كأنَّ جنى الحوْذان في رونقِ الضحى

دنانيرُ تبر من تؤام وفارد

رباع تروت بالرياض مَجودة

بكلِّ جديد الماءِ عذبِ الموارد

إذا راوحتها مزنةٌ بكرت لها

شآبيب مجتاز عليها وقاصد

كأنَّ يَدَ الفتح بنِ خاقانَ أقبلت

تليها بتلك البارقاتِ الرواعدِ

وقلت:

أما ترى عودَ الزمانِ نضرا

ترى لهُ طلاقةً وبشرا

أتته ألطافُ السحابِ تترى

وساقت الجنوبُ غيماً بكرا

تَبسُط في الصحراءِ بُسطاً خضراً

وتمنحُ الروضةَ زهراً صفرا

ونرجساً مثلَ العيونِ زهرا

وأقحوانٍ كالثغور غرّا

كأنما يصوغ فيها تِبرا

كأنما يَدُوفُ فيها عطرا

كأنما ينثرُ فيها دُرّا

فأعمل الكاسات شُمْطاً شُقرا

كالماءِ لوناً والعبير نَشرا

ثم مُرِ الزِّيرَ يناغي الزمرا

والعيشُ أن تُسَرَّ أو تَسُرَّا

لا تفسدَنَّ بالغرامِ العمرا

أحسن ما قيل في النرجس قول أبي نواس:

لدى نرجسٍ غضِّ القطافِ كأنهُ

إذا ما منحناهُ العيونُ عيونُ

مخالفة في شكلهنَّ فصفرةٌ

مكانَ سوادٍ والبياضُ جفون

والناس يشبهونه بالعيون ولا يفضلونه هذا التفضيل. ومما لم يقل مثله قول ابن الرومي:

خجلتْ خُدودُ الوردِ من تفضيلهِ

خجلاً تورُّدُها عليهِ شاهدُ

لم يخجلِ الوردُ المورودُ لونهُ

إلا وناهله الفضيلة عائدُ

للنرجسِ الفضل المبينُ وإن أبى

آبٍ وحاد عن الطريقة حائدُ

فصل القصية أن هذا قائدٌ

زهرَ الربيع وأن هذا طاردُ

شتاّن بين اثنين هذا مُوعدٌ

بتسلُّبِ الدنيا وهذا واعدُ

وإذا احتفظتَ به فأمتعُ صاحبٍ

بحياتهِ لو أنَّ حياً خالدُ

يحكي مصابيحَ السماءِ وتارةً

يحكي مصابيحَ الوجوهِ تُراصد

ينهي النديمُ عن القبيح بلحظهِ

وعلى المدامةِ والسماع يُساعدُ

إن كنتَ تطلبُ في الملاح سميَّهُ

يوماً فإنك لا محالةَ واجد

هذي النجومُ هي التي ربتهما

بحياً السحابِ كما يُربّى الوالد

فانظر إلى الأخوين مَن أدناهما

شبهاً بوالدهِ فذاك الماجدُ

أين العيونُ من الخدود نفاسةً

ورياسةً لولا القياسُ الفاسدُ

وقلت:

ونرجس مثل أكفّ خُرَّدِ

درن علينا بكؤوس الذهبِ

ناولنيه مثلهُ في حسنه

فحلَّ من قلبيَ عقدَ الكُرَبِ

مبتسمٌ عنهُ وناظرٌ به

هذا لعمري عجبٌ في عجبِ

وقلت في معناه:

ألم ترنا نعطي الغوايةَ حقها

ونجري مع اللذاتِ جريَ السوابق

بمحمرةِ الأجسادِ مبيضة الذُّرى

كمثلِ سقيطِ الطلِّ فوقَ الشقائق

لدى الصفر في أوساطِ بيضٍ كأنها

كؤوسُ عُقار في أكفِّ عواتق

وقال ابن الرومي:

للنرجسِ الفضلُ برغم مَن رغم

على صُنوفِ الوردِ والفضلُ قسمْ

العينُ قبلَ السنِّ وهي المبتسم

فما لها والخدّ وهو الملتَدَم

ما أطيب الريح وما أزكى النسم

ما هو إلا نعمةٌ من النعم

ومن التشبيه المصيب قول الآخر

ونرجسٌ لاحظني طرفها

يشبهُ ديناراً على دِرهْم

وقال ابن الرومي في الخمر والنرجس:

ريحانهم ذهبٌ على دُرَرٍ

وشرابهم دُرَرٌ على ذهبِ

وقلت:

يركبُ الأقحوانُ فيها نهاراً

فترى درهماً على دينارِ

فرشَتْ فوقَها فرائدُ طلٍّ

علقت بالنباتِ والأشجار

وتدلّت على الغصونِ فجاءت

كشنوفِ الكواعبِ الأبكارِ

وقال الآخر:

ونرجس قامَ فوقَ منبره

مثلَ عروس تُجلى وتشتهرُ

نامَ الندَى في عيونهِ سحراً

فاعتاده من منامهِ سهر

لم يغتمض والظلامُ حَلَّ بهِ

كأنما في جفونه قصرُ

تحيرُ الطَّلُّ في مَدامعهِ

فليسَ يرقا وليس ينحدر

كدمعةِ الصبِّ يسكبها

فردَّها في جُفونِهِ الحذرُ

وقلت:

وغنت الطيرُ بألحانها

فانتبهَ النرجسُ من رقدته

وأحسن ما قيل في الورد قبل أن يتفتح قول بعض المحدثين:

قد ضمهُ في الغصن قَرْصُ بَرْد

ضمّ فَمٍ لقُبلةٍ من بُعدِ

وقلت فيه إذا تفتح:

مِرَّ بنا يهتزُّ في خطره

ما بينَ أغصان وأقمارِ

يديرُ في أنملهِ وردةً

جاءت من المسك بأخبار

يلوحُ في حُمرتها صُفرةٌ

كالخدِّ منقوطاً بدينارِ

وقال ابن المعذل:

عشية حياتي بوردٍ كأنه

خُدودٌ أضيفت بعضهن إلى بعض

وقلت:

قُومي وانظري ورداً كخدك أحمراً

ترَك الربيعَ وراءهُ وتقدما

قد ضمهُ بردٌ ففتقهُ ندى

كالصبِّ قبل فاك ثم تبسما

ولم أجد في تشبيه الورد أبدع مما ذكرته، وتشبيهه بالخد تشبيه مصيب، ولكني تركت الإكثار منه لشهرته وكثرته، ويقال للوردة الحمراء الحوجة، وللبيضاء الوتيرة، ويشبه بها قرحة الفرس قال عمرو بن معدي كرب:

تباري قُرْحَةً مثل ال

وتيرة لم تكن معذا

وقد أحسن علي بن الجهم في قوله يصف الورد:

كأنهن يواقيتٌ يطيفُ بها

زمرُّدُ وسطها شَذْرٌ من الذهبِ

وهو من قول أزدشير:الورد ياقوت أحمر وأصفر، ودر أبيض، على كراسي زبرجد، يتوسطه شذور ذهب. وقال البحتري:

وقد نبهَ النيروزُ في غلسِ الدجى

أوائلَ وردٍ كُنَّ بالأمس نُوَّما

يفتحهُ بردُ الندى فكأنه

يبثُّ حديثاً كان قبلُ مكتما

وقلت في تفضيل الورد على النرجس:

أفضلُ الوردَ على النرجسِ

لا أجعلُ الأنجمَ كالأشمسِ

ليس الذي يقعدُ في مجلس

مثلَ الذي يَمْثلُ في المجلسِ

وقال ابن بسام:

مداهنٌ من يواقيت منُضدة

على الزمرّدِ في أوساطها الذهبُ

كأنه حينَ يبدو من مطالعهِ

صَبٌّ يُقَبلُ صباً وهو مرتقبُ

ومن الياقوت الأزرق والأصفر والأحمر، وليس في البيت دليل، على أنه أراد الأحمر دون لأزرق، فهو معيب من هذه الجهة. وقلت في الورد على الشجر:

أصبحَ الرود في الغصونِ يحاكي

أوجهَ الحورِ في مقامع خضرِ

مثل فرسانِ غارةٍ يَعْتَليِهم

لمعٌ من دماء سَحْرٍ ونحرِ

ويلوحُ النهارُ أسفلَ منهُ

فهو كالرِّجلِ في عمائم صفرِ

بين نبذ من الشقائق يحكي غلمة الدر في مطارف حمر. وقال ابن المعتز:

ولازوردَّيةٍ أوفَتْ بزُرقَتِها

بين الرياضِ على زرْقِ اليواقيتِ

كأنها فوقَ طاقاتٍ ضعّفنَ بها

أوائلَ النارِ في أطرافِ كبريت

والصحيح أنه في الخرم والشاهد قوله:

بنفسجٌ جمعتْ أطرافهُ فحكَت

دمعاً ينشفُ كُحلا يومَ تشتيتِ

وقوله:

كأنها فوق طاقات ضعفن بها

ويدل على أنه أراد الخرم، لأن ساق البنفسجة لا يضعف عن حمل وردتها، وهذا الوصف بالخرم أشبه منه لكبر نوره ودقة ساقه فاعرف ذلك. وقلت في البنفسج:

وروضةٌ كأنها من حسِنها

تبرزُ في أثوابِ سعد ومُنى

قد نثرَ الليلُ على أنوارِها

لآلىءَ الطلِّ وأفرادَ الندى

بكتْ عليها مُزنةٌ فابتسمتْ

عن لؤلؤٍ بينَ فُرادى وثنى

وحولَها بنفسجٌ كأنّه

أواخرُ النيرانِ في جزلِ الغضا

وقال آخر:

وكأنَّ البنفسجَ الغضَّ فيه

أثرُ اللطمِ في خدودِ الغِيدِ

وقلت:

وبحافاتها البنفسج يحكي

أثرَ القرصَ في خدودِ العذارى

وقلت في الهنة النادرة تحت ورقة البنفسج ولم أسمع فيها من الشعر العربي شيئاً:

ومغنَّج قال الكمالُ لخلقهِ

كن مَجْمَعاً للطيباتِ فكانهُ

زعَمَ البنفسجُ أنهُ كعذارهِ

حُسناً فسلُّوا من قفاهُ لسانَه

وقال ابن الرومي:

أشرب على وردِ البنف

سج قبل تأنيب الحُسودِ

فكأنما أوراقها

آثارُ قَرص في الخدود

أغرب معنى جاء في الشقائق قول الأخيطل:

هذي الشقائقُ قد أبصرتُ حمرَتها

مستشرفاتٍ على قضبانهِا الذللِ

كأنها دمعةٌ قد مَسَّحتْ كُحُلاً

جالتْ بهِ وقفةٌ في وجنتي خجِلِ

وأظن الأخيطل ابتكره، إلا أنه أورده في أهجن معرض، وفي أشد ما يكون من التكلف وأتى بالمحال لأن الوقفة لا تجول. فنظمته وقلت:

وشقائقٌ نقشَ الربيعُ ثيابَها

فبرزنَ بينَ مُكحَلٍ ومُجَسَّدِ

كالخدِّ يصبغهُ الحياءُ بحمرةٍ

وجرى عليهِ الدمعُ خلط الإثمدِ

ومن غريب ما قيل فيها قول بعض المتأخرين:

طربَ الشقائقُ للحمامِ وقد شجا

شجوَ القيانِ فشقَّ فضلَ ردائه

وتحيرت ما بين إثمد ماقه

في الخدِّ دمعتهُ وبينَ حيائه

فكأنه الحَبشيُّ بُضّعَ جسمُهُ

فثيابهُ مُخضلّةٌ بدمائه

وجعل الشقائق واحداً، وهي جماعة مؤنثة والواحد شقيقه، فإذا ذكر فعلى معنى النور وتسميه العرب الشقر. وقلت:

وللشقائق خالٌ فوقَ وجنتِها

ووجنةِ الوردِ بالدينارِ منقوطَه

وقال التنوخي:

شقائقٌ مثلُ خدودٍ نُقشتْ

شواربٌ بالمسكِ فيها ولحى

وهو بعيد لأن السواد الذي فيها لا يشبه الشوارب. ومن أحسن ما قيل في الآذريون قول ابن المعتز:

يا ربما نازعني

رُوح دِنانٍ صافيه

في روضةٍ كأنها

جلد سماءٍ عاريه

كأنما أنهارها

بماء وردٍ جاريه

كأن آذَرْيُونها

غِبُّ سماءٍ هاميه

مداهنٌ من ذهبٍ

فيها بقايا غاليه

وقال أيضاً:

وصَيَّر آذريونهُ فوقَ أذنهِ

ككأسِ عقيقٍ في قرارتِها مسكُ

وقلت:

ولاحَ آذريُونُها

مثلَ الغوالي في السررِ

وقال الشمشاطي:

تراهُ عُيوناً بالنهارِ نواظراً

وبَعدَ غروبِ الشمسِ أزرارَ ديباجِ

وقال ابن المعتز:

كأنها مداهنٌ من ذهب

مُشرفاتٌ وسطهنَّ غاليه

أتم التشبيه ههنا بقوله مشرفات. ومن جيد ما قيل في البهار قول ابن الرومي:

وروضةٍ عذراءَ غيرُ عانسه

خضراء ما فيها خلاة يابسة

فيها شموسٌ للبهارِ دارسه

كأنها جماجمُ الشمامسه

تَرُوقك النَّوْرةُ منها الناسكه

بعينِ يقظَى وبجيد ناعسه

وخُرَّم في صبغةِ الطيالسه

مثل الطواويسِ غدت مُطاوِسه

وقال ابن المعتز:

في روضةٍ كحللِ العروسِ

وخُرّم كهامةِ الطاووسِ

وقلت في المذهب الذي سلكه ابن الرومي:

خرَّمَةٌ كهامةِ الطاووسه

داريَ من بهجتِها مأنوسه

والعينُ في فنائها محبوسه

محفوظةٌ تحسبها محروسه

تعجبني منظورةٌ ملموسَه

مرفوعةُ الهامةِ أو منكوسه

ياقوتة لكنها مغروسه

في زهر كالشعل المقبوسه

كحل ألوانها ملبوسة

وقال التنوخي:

ومن خُرَّم عض خِلالَ شقائقٍ

يلوحُ كخيلانٍ على وردتي خدِّ

وإذا كان في الخد خيلان لم يستحسن الخال الواحد. وقلت:

على رياضُ خُرَّم كأنها

رؤوسُ هدابِ حرير أكحل

وقال ابن طباطبا:

وطَوَّس فيها خُرَّمٌ فكأنها

صماماتُ وشيٍ هُيئَت لمخازن

وقلت في البهار والورد:

وردٌ إلى جنبهِ بَهار

كالخدِّ أصغى إليه قُرط

وقد جمعت أصناف المنثور في أبيات، وما جمعها أحد إلا بعض الكتاب في أبيات غير مختارة الوصف. فقلت:

ألوانُ منثورٍ يريْك حسنها

ألوانَ ياقوتٍ زها في عقده

يا حسنها في كفِّ من يشبهها

فانظر إلى الندِّ بكفِّ نِده

من أشهل كعينهِ وأبيضٍ

كثغرهِ وأحمر كخده

وأصفرِ مثلِ صريع حُبه

إذا تغشاهُ غواشي صَدِّه

وقال السري في الورد:

أما ترى الوردَ قد باحَ الربيعُ بهِ

من بعد ما مرَّ حولٌ وهو إضمارُ

وكان في حللٍ خضرٍ وقد خلعت

إلا عُرى أغفلت منها وأزرار

وقلت:

ليس ينفكُّ للغمام أيادٍ

تتكافا وأنعم تتجددُ

فترى رعدهُ يشقُّ حريراً

وسنى برقهِ يطرز مِطْردُ

وترى للزمانِ غُصناً وريقاً

يملكُ الطرفَ إذ يقومُ ويأود

أنبتَ الأرض عسجداً ولجيناً

فالروابي مكللٌ ومقلدُ

وجرى الريحُ سجسجاً ورخاءً

فالمناهي مسلسلٌ ومُسرَّدُ

وسبى العينَ لؤلؤٌ وعقيقٌ

نظما في زمردٍ وزبرجد

فترى ثَمَّ مضحكاً يتجلى

وترى ثَمَّ وجنةً تتوردُ

قطرات الندَى أحادٌ ومثنى

مثل دُر منظمٍ ومبدد

وكأن الشقيقَ كأسُ عقيقٍ

طرحَ المسكَ في قرارتها ندُّ

فترى النجدَ في رداءٍ موشّى

وترى الوهدَ في قميص مُعمد

وعليهِ من البهارِ عطاف

ومن الوردِ الشقائق مُجْسد

وتَرَى النَّور مثلَ مَضحك خَوْد

وترى الغصن مثلَ شاربِ أمرد

ومن بديع ما قيل في كمون النيلوفر وظهوره قول ابن الرومي:

فكأنهُ في الماءِ صاحبُ مذهبٍ

أغراهُ وَسواسُ بأنْ لا يطهر

وقال السري:

ونيلوفرٍ أوراقهُ الخضرُ تحتهُ

بساطٌ إليهِ الأعينُ النجلُ شُخَّصُ

هذا البيت غير مختار الرصف ظاهر التكلف:

إذا غاصَ في الماءِ النمير حسبتهُ

رؤوسَ إوَزّ في الحياضِ تغوصُ

وقوله النمير لا يحتاج إليه. وقال آخر من أبيات:

كأنما كلُّ قضيبٍ بها

يحملُ في أعلاهُ ياقوته

وقلت:

فشربتها عذراءَ من يدِ مثلها

تحكي الصباحَ مع الصباحِ المشرقِ

في روضةٍ تلقاك حينَ لقيتها

بمنمنم من نبتها ومنمقِ

فانظر إلى عشبٍ هناك مجمع

وانظر إلى زهر هناك مفرق

تحبى بوردٍ كالجينِ مكفرٍ

منها ووردٍ كالعقيقِ مخلّقِ

وكذاك تتحف من مناقع مائها

بمخلقٍ يعلو ذؤابةَ أخلقِ

يبدو ويكمن في الغدير كأنه

جانٍ يحاول أن يبينَ ويتقي

فإلى السرور لنا عنانٌ مطلقٌ

إن الفوائدَ في العنانِ المطلق

وقد أحسن القائل في وصفه الرياض:

بكين فأضحكنَ الرُبى عن زخارف

من الروضِ عنهنَّ الثرى متهاملُ

ترى قضيبَ الياقوتِ تحتَ زبرجد

تنوء به أعناقهنَّ الموائل

تلقحها الأنداء ليلاً بريقها

فيصبحنَ أبكاراً وهنَّ حواملُ

وقلت في الآس ولا أعرف لأحد فيه شيئاً بديعاً:

ومهرجانٌ معجبٌ مونقٌ

كالنَّوْرِ غبَّ السَّبَل الساجمِ

طالعتُ فيه غُرَراً وُضَّحا

كمثلِ أيامِ أبي القاسمِ

والآس في كفي أحييهمُ

مثلَ شوابيرِ بني هاشمِ

وقلت في الريحان:

وخضرٌ يجمع الأعجاز منها

مناطق مثل أطواقِ الحمامِ

لها حسنُ العوارضِ حينَ تَبدو

وفيها لين أعطافِ الغلامِ

وقال كشاجم وأحسن:

أرتك يدُ الغيثِ آثارَها

وأعلنتِ الأرضِ أسرارهَا

وكانت أكنَّتْ لكانونها

خبيئاً فأعطْته آذارها

والنصف الأول من هذا البيت متكلف:

فما تقعُ العينُ إلّا على

رياضٍ تصَنّفُ أنوارهَا

يفتحُ فيها نسيمُ الصًّبا

جناها فيهتكُ أستارها

ويسفح فيها دماءَ الشقبقِ

ندى ظلَّ يفتضُّ أبكارها

وتدني إلى بعضها بعضَها

كضمِّ الأحبةِ زُوَّارها

كأنَّ تفتحها بالضحى

عذارَى تحللُ أزرارها

تفضُّ لنرجسها أعيناً

وطوراً تحدِّقُ أبصارها

إذا مزنةٌ سكبت ماءها

على بقعةٍ أشعلت نارها

وقال فيها:

وأقبلَ ينظمُ أنجادَها

بفيضِ المياهِ وأغوارَها

وأرضعَ جناتها دَرَّةُ

فعمَّمَ بالنورِ أشجارَها

ودارَ بأكنافِها دَوْرَةً

تُنسي الأوائلَ برَّ جارها

وقال أيضاً في الباقلي:

جنيُّ يومٍ لم يؤخر لغدِ

ولم ينقل من يدٍ إلى يدِ

كالعقدِ إلا أنه لم يُعقدِ

أو كالفصوص في أكفِّ الخرَّدِ

أو ككبار اللؤلؤِ المنضّد

في طيِّ أصدافِ من الزبرجدِ

مفروشة بالكرسُفِ المُلَبَّد

وقلت فيه أيضاً:

أبدى الربيعُ لنا من حُسنِ صنعتهِ

شبائهُ اتفقتْ في الشكلِ والصور

خضرٌ ظواهرُها بيضٌ بطائنُها

تحكي القباطيَ تحت السندسِ النضر

بيضٌ شبائهُ في خضرٍ ململمةٍ

مثل الزبرجدِ مثنياً على درر

ينشقُّ أخضرُها عن أبيضِ يقِقٍ

كالثغرِ يشرقُ تحتَ الشاربِ الخضرِ

ومن المشهور في ورد الباقلي قول الصنوبري:

وبناتِ باقِلى يُشبه نَوْرُها

بلقَ الحمامِ مُشيلةً أذنابَها

وقلت فيه:

ويُزْهى وَرْدُ باقلي

كأطواقِ الشعانينِ

وقال السري في غير ذلك:

في زاهر عبق تضوعهُ

فكأنَّ عطاراً يعطره

ضاهى ممسكهُ معنبرهُ

وحكى مُدَرْهَمه مدنِّرهُ

ومن أجود ما قيل في البساتين، ومواضع الأشجار، قول الخليل بن أحمد، أخبرنا أبو أحمد عن رجل عن الرياشي قال:كان في يد الخليل بن أحمد من أراضي البصرة ليتيم، فلما بلغ اليتيم مضى به الخليل إلى الأرض، ومعه قارورة من ماء زمزم، فلما جاء المد صب ما فيها في فوهة نهرها، ليخلص إلى جميعها، ثم قال: يا بني هذه أرضك، فقم فصل فيها ركعتين، واشكر الله على ما أعطاك منها، وادع بالبركة لك ولمن بعدك. ثم أنشأ يقول في وصفها:

ترفعت عن يدِ الأعماقِ وانخفضت

عن المعاطشِ واستغنت بسقياها

فالتفَّ بالزهرِ والريحانِ أسفلها

ومالَ بالنخلِ والرمانِ أعلاها

وصارَ يحسده فيها أصادقهُ

ولائمٌ لامَ فيها من تمناها

أبا معاويةَ اشكر فضلَ واهبها

وكلما جئتها فاعمر مصلاها

وقال ابن المعتز في السرو والنرجس:

لدى نَرجسٍ غضِّ وسروٍ كأنهُ

قدودُ جَوارٍ رحْنَ في أُزُرٍ خُضرٍ

وقلت:

لبسَ الماءُ والهواء صفاءً

واكتسى الروضُ بهجةً وبهاءً

فكأن النهاءَ صرنَ رياضاً

وكأنَّ الرياضَ عدن نِهاءً

وكأنَّ الهواءَ صارَ رحيقاً

وكأنَّ الرحيقَ صارَ هواءً

وتخالُ السماءَ بالليلِ أرضاً

وترى ظلّت تنادمُ الأنواء

جللتها الأنواءُ زهراً وصفراً

يومَ ظلّت تنادمُ الأنواء

فتراها ما بينَ نَوْءٍ ونَوْرٍ

تتكافا تبسّماً وبكاءً

وتظلُّ الأشجارُ تتخدُ الحسنَ

قميصاً أو الجمالَ رداءً

لبستْ حينَ أثمرتْ خُلداتٍ

واكتستْ حينَ أورقت سِيراءً

وترى السروَ كالمنابرِ تَزْهى

وترى الطيرَ فوقها خطباء

وقال ابن عيينة:

تذكرني في الفردوسُ طوراً فأرعوي

وطوراً تواتيني على القصفِ والفتكِ

بغرس كأبكار الجواري وتربةٍ

كأن ثراها ماءُ وردٍ على مسكِ

وقال السري في تفاح ودستنبوي ورمان:

إنَّ شيطانكَ في الظَّرْ

فِ لشيطانٌ مَريدُ

فلهذا أنتَ فيه

مُبدئٌ ثم مُعيدُ

قد أتتنا طُرَفٌ منك على الظرفِ تزيدُ

طبقٌ فيه خدودٌ

وقدودٌ ونهودُ

وقد أحسن التنوخي في وصف النارنج حيث يقول:

لم لا تجنُّ بها القلوب

وقد غدت مثلَ القلوبِ

وقلت:

تطالعنا بين الغصونِ كأنها

خدودُ عذارى في ملاحفها الخضرِ

أتت كلَّ مشتاقٍ بريّا حبيبهِ

فهاجت لهُ الأحزان من حيثُ لا يدريِ

وقال:

إذا لاحَ في أغصانهِ فكأنه

شموسُ عقيقٍ في قبابِ زبرجدِ

وقلت في المركب:

مركب تعجبُ مِن حُسنهِ

قد كنز الفضة في تبره

يشاكلُ العاشق في لونهِ

ويُشبهُ المعشوق في نشره

وقال الصنوبري في التفاح وقد ظرف:

أعطت يداهُ محبهُ تفاحةً

نعطي المحبّ أمانهُ من صدِّهِ

وهذا البيت متكلف جداً:

فعلمتُ حينَ لثمتها من كفهِ

سألْثمُ أختها من خَدِّهِ

وقال أيضاً:

جاءَ فحياني بأترجةٍ

من ذهبٍ قد حُشيتْ فضه

أتى بها ناعمةً غضةً

من كفهِ الناعمةِ الغضه

تُبذَلُ للقبلةِ حُسناً ولا

تصلحُ أن تُبذلَ للعضه

أحببْ بها من مسكةٍ مخضة

ناولنيها مسكةً محضهْ

وقلت في الأترج والنارنج:

ترى النارنجَ في ورق نضير

فتحسبهُ عقيقاً في زبرجدِ

وأترجٌ على الأغصان يزْهى

كما رفعَ الفتى قنديلَ عسجد

وقال بعضهم في دستنبوية:

يا حَبذا تحيةٌ

رحت بها مسرورا

مخزنة من ذهب

قد مُلئت كافورا

وقال غيره في الليمون:

وقهوة تزهرُ في السراج

نشرتها على كراتِ عاج

ملبسات أصفر الديباج

وقتل فيه:

أحدقَ ليمونٌ بأترجه

كأنجمٍ تحدقُ بالبدر

مخروطة الأجسادِ من فضةٍ

ملبسات قُمصَ التِّبر

قد شدَ من هامتها زِرُّها

يا عجباً من ذلك الزِّرِّ

اشرب عليها وتمتعْ بها

فإنها من تُحفِ الدهرِ

ولبعض الكتاب رسالة في التفاح، ليس لها نظير في معناها، وهي التي أخبرنا بها أبو أحمد قال:قال أخبرنا الجلودي قال حدثنا أحمد بن أبي طاهر، قال أهدى ظريف من الكتاب تفاحة وكتب:لما رأت تنافس أحبابك، وثقات أصدقائك: على الهدايا وتواتر ألطافهم عليك، تفكرت في هدية تخف مؤنثها، ويعظم خطرها، ويجل موقعها، تجمع الخصال المحمودة، وتنظم الخلال المرموقة، فلم أجد شيئاً يجتمع فيه ما أحببنا، ويكمل له ما وصفنا غير التفاح، فأهديت إليك منه واحدة، وأحببت أن أنبهك على فضلها، وأقفك على نبلها، وأكشف لك عن سرائرها، وأعرفك لطائف معانيها، وأنعت لك مقالة الأطباء فيها. وما نظمت الشعراء في مدحها، حتى تراها بعين الجلالة، وتنظر إليها نظر الصيانة، فإنه يحكي عن أمير المؤمنين المأمون أنه قال: اجتمع في التفاح الصفرة الدرية، والحمرة الخمرية الذهبية، وبياض الفضة ونور القمر يلتذ بها من الحواس ثلاث: العين لحسن لونها والأنف لطيب عرفها، والفم للذة طعمها. وقال حكيم من الحكماء:الخمر صديقة الجسم والتفاح صديق الروح. وقال آخر منهم وقد حضرت وفاته، واجتمع إليه تلامذته، وأراد مناظرتهم فضعف عنها فقال:إئتوني بتفاحة أعتصم برائحتها ريثما أقضي وطري من المناظرة، فلم يستخفها إلا لفضلها على غيرها. وقال آخر:جسم التفاح صديق الجسم وريحه صديق الروح. وقال حكيم من الأطباء:إن أجود الأشياء، لعلاج المزاج الحاد، الكائن في المعدة مع المزاج البارد، الكائن في الرأس، وغثيان النفس، وقلة الاستمرار للطعام: التفاح. وقال إبراهيم بن هانىء:ما علل المريض المبتلى، وسكنت حرارة الثكلى، وردعت شهوة الحبلى، ولا كسرت فورة السكران، ولا أرضى الغضبان ولا ردت عرامة الصبيان، بشيء مثل التفاح. والتفاحة إن حملتها لم تثقلك، وإن رميت بها لم تؤلمك، وقد اجتمع فيها لون قوس قزح، من الحمرة والخضرة ولو حل التفاح، لكان قوساً، ولو عقدت القوس لكانت تفاحاً. وقال بعض الشعراء:

حُمرةُ التفاحِ في خُضرتهِ

أقربُ الأشياء من قوسِ قزح

والخمرة تفاحة ذائبة والتفاحة خمرة جامدة. وقال الشاعر:الخمر والتفاح شكلان وقال الآخر:

تفاحةٌ حمراءُ منقوشةُ

ركبتَها في غُصنِ الآس

ألبستها ورداً وكللتها

إكليلِ نسرين على الراسِ

وقال آخر في التفاحة:

كأنما حُمرتها

حمرةُ خدِّ خَجل

وقال ابن أبي أمية:

ما زلتُ أرجوكَ وأخشى الردى

معتصماً باللَّهِ والصبرِ

حتى أتتني منك تفاحةٌ

زحزحتِ الأحزانَ عن صدري

حشوتها مسكاً ونقشتها

ونقشُ كفيك من السحرِ

واهاَ لها تفاحة أُهديتْ

لو لم تكن من خُدَعِ الدهر

فإذا وصلت إليك - أوصلك الله إلى رحمته وعطفه - فتأمل وصفها بعينك، وتناولها بيمينك، وأحضرها ذهنك، وفرغ لها شغلك، واجمع لها عقلك، وغازلها ساعة، وهازلها أخرى، ولا تكن متهاوناً بقدرها، غير عالم بفضلها، فتتناولها بحركة باردة، وطبيعة جامدة، وقلب ساهٍ، وعقل لاه، وذهن غبي، وشراهية نهم، عساه أن يكلمها بأسنانه، ولا يدري ما قدرك عند إخوانه، ويقصر بمن حياه، وينتقص من أهداه، ولا تخدشها بيدك، ولا تثلمها بظفرك، ولا تبتذلها للغبار، ولا تعرضها للدخان، فإذا طال لبثها لديك، وخفت أن يرميها الزمان بسهمه، ويقصدك بريبه ويذهب بهجتها، ويحول نضرتها فهنيئاً لك أكلها والسلام. وشبه بعضهم ورق الريحان بقافات وفاآت، في شعر غير جيد، فتركته ولم أذكره. وقلت في الريحان:

ثم انثنينا إلى خُضرٍ مُنعمةٍ

كأنَّ أوراقها آذانُ جُرذانِ

وقهوة كجنِيِّ الوردِ وشَّحهُ

من لؤلؤِ القطرِ والأنداءِ سمطان

وقال السري في دستنبوية:

وأغنّ كالرشأ الغري

رِ نشا خلالَ الربربِ

في خَدّه وردٌ حما

هُ من القطافِ بعقربِ

حيا بدستنبويةٍ

مثل السنان المذْهبِ

وقال أيضاً فيها:

صفراء ما عَنَّت لعينيْ ناظرٍ

إلا توهمها سناناً مُذْهبا

وقلت:

وأتْرج يَحفُ بها أقاحٍ

كبدرِ الليلِ تكنفهُ النجومُ

وقال السري في نارنجة:

أهدت على نأي المحلِّ وقد

أنأى التصبرَ طُولُ هجرتها

نارنجةً منها استعيرَ لها

ما ألبستْ من حُسنِ بهجتها

وشُعاعُها من نورِ وجنتها

ونسيمُها من عِطرِ نكهتها

وكأنَّ ما يخفيه باطنها

ما لأضمرتْ من سوءِ غُدرتها

وحكى اخضرارٌ شابَ وجنتها

قَرْصَ الأكفِّ أديمَ وجنتِها

فأتتك مُكمَلةً محاسنُها

تختالُ في أثوابِ زينتها

فشعارُها صفوُ اللجينِ ومن

ذهب مصوغٌ ثوبُ بِذلتها

تُهدي إلى الأرواح من بُعدٍ

تُحَفَ السرورِ لطيبِ نشوتها

ويصونها مسرَى روائحها

من أن تباشرَها بشمَّتها

فاشربْ عليها من شقيقتها

في نعتِ رَيَّاها وصبغتها

واعطفْ عِنانَ النفسِ عن فكرٍ

راحت معذّبة بفكرتها

وقال ابن طباطبا العلوي في الأترج:

ريحانةٌ في اصفرارِ مهديها

شبهتها بعدَ فكرةٍ فيها

أحبةً لم تُصِخْ لعاذلها

تَسُدُّ آذانها بأيديها

فأورد المعنى في بيتين فقصر من غرابة معناه. وجعلت دستنبوية مقفعة في غصن آس، فسقطت فناولنيها بعض الأحبة فقلت:

وأصفرُ يهوي من ذؤابةِ أخضر

كما انقضَّ نجمٌ في الدُّجنَّةِ ثاقبُ

له شعبٌ تهوي على سَرَواتهِ

كمثلِ بنانِ الكفِّ يلويه حاسب

فناولنيهِ ذو دلالٍ كأنما

لهُ الشمسُ أمٌّ والبدورُ أقارب

فأصبح مشهورَ الجمالِ مُشهراً

له الحسنُ خذنٌ والملاحةُ صاحب

وقال بعضهم في الأترج:

لها ورقٌ ريحها ريحهُ

وما ذاك في غيرهِ لم طلب

كأن تعطف أوراقها

أكفٌ تشيرُ إلى من تحب

وقال ابن خلاد في شجر الزيتون:

إذا ذلت الأشجارُ يوماً لجفوةٍ

فإنَّ لها عِزَّ القناعةِ والصبرِ

تًصرَّفُ في اللذاتِ من كلِّ مطعم

تصرفَ زيد آخذاً بقفا عمرو

وقلت في التفاح:

ليسَ ريحُ التفاحِ عندي بريحٍ

لا ولكنهُ صَديقٌ لروحي

حُمرَةُ الخدِّ واخضرارُ عِذارٍ

فمليحٌ يطوفُ حَوْلَ مليحِ

وقال نصر بن أحمد:

أكلتُ تفاحة فعاتبني

فتىً رآها كخدّ معشوقه

فقال خَدُّ الحبيبِ تأكلهُ

فقلتُ لا بل أمصُّ من ريقه

وقال السري:

لم جُمِّدتْ راحنا اغتدت ذهباً

أو ذابَ تفاحُنا غدا راحا

وقلت في الرمان ولا أعرف فيه شيئاً مرضياً:

حكى الرُّمان أوَّلَ ما تبدَّى

حِقاقَ زبرجدِ يُحشيْنَ دُرّا

فجاءَ الصيفُ يحشوهُ عقيقاً

ويكسوهُ مرورُ القيظِ تبرا

ويحكي في الغصون ثُديَّ حُور

شقّقْنَ غلائلاً عنهن خضرا

وقلت في خوخة:

وخوخةٍ ملء يَدِ الجانيهْ

تملكُ لحظَ الأعينِ الرانيهْ

مصفرة الوجنةِ محمرّة

كأنها عاشقةٌ ساليه

وأجود ما قيل في العنب قول ابن الرومي:

ورازقيّ مخطَفِ الخصورِ

كأنه مخاونُ البللورِ

قد ملئتْ مسكاً إلى الشطورِ

وفي الأعالي ماءُ وردٍ جُوري

لم يُبقِ منها وَهجُ الحَرورِ

إلا ضياءً في ظروف نور

له مذاقُ الغسل المشورِ

وبردُ مسِّ الخصر المقرورِ

ونفحةُ المسك مع الكافور

لو أنهُ يبقى مع الدهور

قرّط آذانَ الحسانِ الحورِ

وقال في معناه:

ورازقيّ مخطف خصورهُ

قد أيعنت أنْصافهُ الأسافلُ

كأنها مخازنٌ مملوةٌ

من ماءِ وردٍ فيه مِسكٌ ثافلُ

لا يزيد على هذا الوصف أحد. ودخل أعرابي على هشام بن عبد الملك، فقال له هشام: ما أطيب العنب عندكم ؟ قال ما أخضر عوده، وغلظ عموده، وسبط عنقوده، ورق لحاؤه، وكثر ماؤه. فقال له كم عطاءك ؟ فقال ألفين. فسكت ساعة، ثم قال له كم عطاؤك ؟ قال ألفان. قال فلم لحنت أولاً ؟ قال لم أشته أن أكون فارساً وأمير المؤمنين راجلاً، لحنت فلحنت، ونحوت فنحوت. فاستحسن أدبه وأجازه. وقلت:

باكرَنا الدهرُ بسرَّائِه

وكفَّ عنا بأسَ بأسائه

وجاءنا أيلولُ مستبشراً

يثني على الدهرِ بآلائه

أما ترى الرقةَ في جَوِّهِ

تناسبُ الرقةَ في مائه

أنظر إلى أنواعِ أثمارهِ

قد ضمها في بُرْدِ أحشائه

راحت عليها نسماتُ الصبا

تقرصها في برد أفنائه

أما ترى حسنَ مِلاحيهِ

يُهدَى إلى بهجةِ شعرائه

أنظر إلى رُمَّانه ضاحكا

حمراؤهُ في وجهِ بيضائه

وقال ابن المعتز في العنب:

ظلت عناقيدُها يخرجنَ من ورق

كما اختبى الزنجُ في خضرٍ من الأُزرِ

ويروى لابن المعتز في التفاح:

وتفاحةٍ صفراءَ حمراءَ غضة

كخدِّ مُحبٍ فوقَ خدِّ حبيبِ

أحيا بها طوراً وأشربُ مثلها

من الراح في كفي أغن ربيبِ

وقلت في النارنج:

روضٌ زهاهُ المزنُ في كرَّاتِه

بِمكفرِ ومُزعفرٍ ومُضرَّجِ

فتبسّم النارنجُ في شجراتهِ

مثلَ العقيقِ يلوحُ في الفيروزجِ

والكأس يحملها أغنُّ يزينهُ

وجناتُ وردٍ في عِذارِ بنفسجِ

ومن أجود ما قيل في النخل، من قديم الشعر، ما أنشدناه أبو أحمد، عن الجلودي عن محمد بن العباس، عن أبيه عن الأصمعي للنمر بن تولب:

ضربنَ العرقَ في يَنبوع عينٍ

طلبنَ مَعينه حتى ارتوينا

بنات الدهرِ لا يخشينَ محلاً

إذا لم تَبْقَ سائمةٌ بقينا

كأنَّ فروعهنَّ بكلِّ ريحٍ

عذارَى بالذوائبِ ينتصينا

وقد ملح النبغة في قوله:

صغارُ النوى مكنوزةٌ ليس قشرها

إذا طارَ قشرُ التمرِ عنها بطائرِ

من الواردات الماء بالقاع تستقي بأعجازها قبل استقاء الحناجر. وهذا أجود من الأول، لأنه ذكر أنهن وردن الماء، يعني الماء الذي في بطن الأرض معينا. وقال النمر: طلبن معينه فجعل الماء، الذي في بطن الأرض معيناً، والمعين إنما هو الماء الجاري على وجه الأرض ظاهراً. ومن أجود ما قيل في الطلع، من الشعر القديم، قول كعب بن الأشرف:

ونخيل في تلاعٍ جمةٍ

تخرجُ الطلعَ كأمثالِ الأكفِّ

وقال الربيع بن أبي الحقيق:

أذلك أم غرسٌ من النخل مترع

بوادي القرى فيه العيونُ الرواجعُ

لها سَعَفٌ جعدٌ وليفٌ كأنه

حواشي بُرودٍ حَاكهنّ الصوانعُ

وهذا في وصف الليف حسن. وأخبرنا أبو أحمد، عن الجلودي، عن الحارث بن إسماعيل، عن سهل بن محمد، عن علي بن محمد، عن أسلم الأزدي، عن يونس عن الشعبي، قال كتب قيصر إلى عمر:إن رسلي أخبروني أن بأرضك شجرة، كالرجل القائم، تفلق عن مثل آذان الحمر، ثم يصير مثل اللؤلؤ، ثم يعود كالزمرد الأخضر، ثم يصير كالياقوت الأحمر والأصفر، ثم يرطب فيكون كأطيب فالوذ اتخذ، ثم يجف فيكون عصمة للمقيم وزاداً للمسافر، فإن كان رسلي صدقوني، فهي الشجرة التي نبتت على مريم بنت عمران. فكتب عمر إليه:إن رسلك صدقوك وهي شجرة مريم فاتق الله ولا تتخذ عيسى إلهاً من دون الله. وهذه تشبيهات مصيبة أخذها عبد الصمد بن المعذل فقال يصف النخل:

حدائقٌ ملتفة الجنانِ

رَسَت بشاطى تَرعٍ رَيانِ

تمتارُ بالأعجازِ للأذقانِ

لا ترهبُ المحلَ من الأزمانِ

ولا توقيَّ خَتلَ الذوبان

ولا تَرى ناشدة الرعيانِ

ولا تخافٌ عِرَّةَ الأوطانِ

سُحمُ الرؤوسِ كمتُ الأبدان

لها بيوم البارحِ الحنانِ

مثلُ تناصي الخرَّد الحسانِ

إذ هي أبدت زينة الرُّهبانِ

لاحت بكافورٍ على إهان

يطلعُ منها كيدُ الانسان

إذا بدتْ ملمومةَ البنانِ

عُلت بورسٍ أو بزعفران

حتى إذا شبه بالآذانِ

من حمرُ الوحشِ لذي عِيانِ

وهذا لفظ زائد على معناه:

شققهُ عِلجانِ ماهرانِ

من لؤلؤٍ صيغَ على قُضبانِ

مصوغةٍ من ذهبٍ خَلصان

ثم ترى للسبعِ والثمانِ

قد حالَ مثلَ الشذرِ في الجمان

يضحكُ عن مشتبهِ الأقران

كأنهُ في باطن الأفنان

زمردٌ لاحَ على التيجان

حتى إذا تمَّ لَهُ شهران

وانسدلت عثاكلُ القنوان

كأنها قضبٌ من العقيان

فصلْنَ بالياقوتِ والمرجان

من قانى أحمرَ أرجوان

وفاقع أصفرَ كالنيرانِ

مثل الأكاليل على الغواني

ولا أعرف في النخل، من شعر المحدثين، أجود من هذه الأرجوزة. وقلت:

ونخيل وقفنَ في معطفِ الرم

لِ وقُوفَ الحبشانِ في التيجانِ

شَربتْ بالأعجازِ حتى تَروَّت

وتراءت بزينةِ الرحمان

طلعَ الطلعُ في الجماجم منها

كأكفّ خرجنَ من أردانِ

فتراها كأنها كُمتُ الخيلِ

توافت مُصرةُ الآذان

أهو الطلعُ أم سلاسلُ عاج

حُمِّلَت في سفائن العقيان

ثم عادتْ شبائهاً تتباهى

بأعالي شبائه أقران

خرزاتٌ من الزبرجد خضرٌ

وهبتها السلوكُ للقضبان

ثم حال النجارُ واختلف الشك

لُ فلاحت بجوهرٍ ألوان

بينَ صُفرٍ فواقع تتباهى

في شماريخها وحُمرٍ قواني

وقال بعض العرب:

طلعاً كآذان الكلابِ البيض

وقال ابن المعتز في الرطب:

كقطع العقيقِ يانعاتِ

بخالصِ التبرِ مُنوعَّاتِ

وأخبرنا أبو أحمد، قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد، قال: أخبرنا السكن بن السعيد، قال: أخبرنا محمد بن عباد، قال: تكلم صعصعة، عند معاوية، بكلام أحسن فيه، فحسده عمرو بن العاص فقال: هذا بالتمر أبصر منه بالكلام، قال صعصعة: أجل أجوده ما دق نواه، ورق سحاؤه، وعظم لحاؤه، والريح تنفجه، والشمس تنضجه، والبرد يدمجه، ولكنك يا بن العاص، لا تمراً تصف، ولا الخير تعرف بل تحسد فتقرف. فقال معاوية: رغماً. فقال عمرو: أضعاف الرغم لك، وما بي إلا بعض ما بك. ومن الغلو في صفة التمر: ما أخبرنا به أبو أحمد، عن ابن الأنباري، عن إسماعيل ابن إسحاق القاضي، عن أبي نصر، قال: قال الأصمعي: قيل للغاضري أي التمر أجود ؟ قال: الجرد الفطس الذي كأن نواه ألسن الطير، تضع الواحدة في فمك، فتجد حلاوتها في كعبك يعني الصيحاني. وقال الخباز البلدي:

ذرَى شجر للطيرِ فيه تشاجرٌ

كأنّ بناتِ الوردِ فيهِ جواهرُ

كأن القمارِى والبلابلَ بينها

قِيانٌ وأوراقُ الغصونِ ستائر

شربنا على ذاك الترنّمِ قهوةً

كأن على أحداقِها الدُّرُّ دائرُ

وقال غيره:

أيُّ يوم لنا على التلِّ بالما

ه وعيش تضيقُ عنهُ النعوتُ

ورَّدَ الدرُّ فيه في شجرِ اللو

زِ وفي الخوخ ورَّدَ الياقوتُ

وقلت:

ظل يسقي حدائقاً وجناناً

يا لها من حدائقٍ وجنانِ

خطرت بينها الرياحُ سُحيراً

فتناصت تناصيَ الأقران

وتناجى الغصونُ فيها سِرارَاً

وتنادَى الطيورُ بالإعلان

فتناجي الغصونِ شبهُ عتابٍ

وتنادِي الطيورِ مثلُ أغاني

من كرومٍ تمايلت بعناقي

دٍ كجُعدِ الزنوجِ والحُبشان

ومُلاحيةً تميِّلُ أخرى

كوجوهِ الخرائد الغُرَّان

كلآلي تشبثت بلآلٍ

وبنانٍ تشبَّكت ببنانِ

فهيَ كالنجم في فروعِ كرومٍ

وهي كالشمسِ في بطونِ الدنانِ

وقلت في البطيخ:

وجامعة لأصناف المعاني

صلحنَ لوقتِ إكثارٍ وقله

وإحداهنَّ تبرُزُ في عباءٍ

وأخراهن في حِبرَ وحُلَّه

ومنها ما تشبّهُهُ بُدوراً

فإنْ قطَّعتها رجعت أهلَّه

وقلت:

بسُمرانٍ وسُودانٍ

وحُمرانٍ وصُفرانِ

كوشي في يَديْ وَاشٍ

وشَهدٍ في يَدْي جاني

فمن أدم ومن نُقلٍ

وريحانٍ وأشنانِ

وأنشدنا أبو أحمد في الكرم:

لهنّ ظلٌ باردُ الودائق

يحملنُ لذاً طعمهُ للذائقِ

كأنها غدائرُ العواتق

تنُاطُ في حُجرٍ من المعالقِ

كأنها أناملُ الغَرانق

وهو من قول الآخر:

يحملنها بأنامل النقران

وقلت في اللفاح:

انظر إلى اللُّفَّاح تنظرُ معجباً

يجلو عليك مُفضَّضاً في مُذْهَب

يعلو مفارقَهُ قلانسُ أخفيت

من تحتهنَّ دراهمٌ لم تضربِ

وقلت في قصب السكر ولا أعرف فيه شيئاً لأحد:

وممشوقةِ القاماتِ بيضُ نحورُها

وخُضرٌ نواصيها وصُفر جُسومُها

لها حقبٌ لا تستطيعُ أطّراحَها

وليس يطيقُ سلَبها من يرومُها

وهنَّ رِماحٌ لا تريقُ دَمَ العدى

ولكن يُراقُ في القدور صميمها

يميل على أعرافِها عذباتَها

كحورٍ تناصي هندهُا ورميمُها

تناهى بها الأدراكُ حتى كأنها

يُعلُّ بماءِ الزعفرانِ أدِيمُها

ترى الريح يُغريها بنجوَى خفِيَّة

إذا ما جرى قَصرَ العشيّ نسيمُها

ومن جيد ما قيل في السدر والطلح قول بعضهم:

لم ترَ عَيْنا ناظرٍ مَنظراً

أحسن من أفنان طلح مَروح

كأنها والريحُ تسمُو بها

ألويةٌ منشورةٌ للفُتوحِ

وسِدرة مدّت بأفنانها

على سَواقِ كمتونِ الصفيحِ

إلا أن قوله للفتوح فضلٌ لا يحتاج إليه، لأن الألوية إذا نشرت للفتوح، مثلها إذا نشرت لغير الفتوح فذكر الفتوح لغو. وإنما أورد في هذا الكتاب، مثل هذا الشعر لأن غيري اختارها، فأريد أن أدل على موضع العيب فيه ليوقف عليه. ومن جيد ما قيل في النبق قول بعضهم:

أتاني فحيَّاني بنبقٍ كأنهُ

حُليُّ عَرُوسٍ زان ليتاً وأخدعا

بأحمر كالياقوتِ يَقُر ماؤهُ

وأصفرَ كالعقيان ضَمَّهما معا

وقال آخر:

أقبلَ تحتَ الليل كالظبيِ الغَرق

بالراح والرَّيْحان والمسكِ عَبِق

فجادَ بالوصلِ وحيَّا بالنبق

وقلت نبقى هكذا ونتفق

ما اخضرَّ عودٌ أبداً لا نفترق

وقلت في النبق:

جلى الربيعُ علينا

كواعباً أبكاراً

مُتوَّجات عقيقاً

مسورات نهارا

ترى لهنَّ من الور

دِ شوذراً وخمارا

أهدى لنا جوهراتٍ

تحيرُ الأبصارا

يا حسنَ حُمرٍ وصُفر

تريك جمراً ونارا

قد راقَ ذاك احمراراً

وراع ذاك اصفرارا

وخلتُ هذا عقيقاً

وخلتُ ذاك نُضارا

وذاك شهداً مشاراً

وذاك راحاً عُقاراً

لو كان يبقى سليماً

نظمتُه تقصارا

وقلت في المشمش، ولا أعرف فيه لأحد شيئاً مرضياً:

جنيتها والصبحُ ورَديُّ العَذَب

بنادقاً مخروطةً من الذهبِ

قد ضُمِّنتْ أمثالها من الخشب

والتفَّ منها خشبٌ على غَربِ

وصار منهُ السمُّ حشواً للضرب

فهي لعمري عجبٌ من العجبِ

الغرب الفضة، والضرب العسل. ولا أعرف في التين أجود من قول القائل:

أهلاً بتينٍ جاءنا

مُبتسماً على طبقِ

يحكي الصباحَ بعضُه

وبعضُه يحكي الغسق

كسُفرٍ مضمومةٍ

قد جُمِعت بلا حلق

وقال الحلبي في الفستق:

من الفستقِ الشاميّ كلُّ مصون

تصانُ من الأحداثِ فيٍ بطنِ تابوتِ

زبرجدة ملفوفة في حريرةٍ

مضُمَّنةٍ دُراً مُغشى بياقوتِ

وقلت في خيارة:

زبرجدةٌ فيها قراضةُ فِضَّةٍ

فإن رجعتْ تِبراً فقد خَسَّ أمرُها

تلم بناطورينِ في كلِّ حَجَّةٍ

فيكثر فينا خَيْرُها ثم شرُّها

فعند المصيفِ ليسَ يفقدُ نفعَها

وعندَ الخريفِ ليسَ يُؤمَنُ ضرُّها

وأما ذم البساتين، فمن أجود ما قيل فيه قول ابن الرومي:

لله ما ضَيَّعْتُه من الشجرِ

أطفالُ غرسٍ تُرتجى وتُنَتظر

ومُعجباتٍ من بقول وزهر

مصفرةٌ قد هرِمت لا من كبر

في بقعةٍ لا سِقَيتْ صوبَ المطر

حالِقةٌ لنبِتها حلقَ الشعَر

ضميرُها النارُ وإن لم تستعر

كلُّ امرىء غيري من هذا البشر

بستانُه أنثى وبُستاني ذكر

وما يجري مع هذا قول الأعرابي:

مُطِرنا فلما أن روينا تهادرت

شقاشق فيها رائبٌ وحليب

ورامت رجالٌ من رجالٍ ظُلامةً

وعدَّت ذُخُولٌ بيننا وَذُنوبُ

ونصَّت ركابٌ للصبا فتروحَّتْ

ألا ربما هاجَ الحبيبَ حبيبُ

بني عمنا لا تُعجلِوا نضبَ الثرى

قليلاً ويشفي المترفينَ طبيبُ

ولو قد تولى الضبُ وامترت القرى

وحنَّت ركابُ الحيّ حين تؤوبُ

وصارَ غَبوقَ الخَودِ وهي كريمةٌ

على أهلها ذو جِدتين مَشوب

وصار الذي في أنفهِ خُنزُوانةٌ

ينادي إلى هادي الرّحا فيجيبُ

أولئك أيامٌ تُبَيِّنُ للفتى

أكاب سلِيب أوا أشمُّ نجِيب

الفصل الثالث من الباب السابع

شارك هذه الصفحة:

تابع موسوعة الأدب العربي على شبكات التواصل الإجتماعي